نبض الحياة!

من كتاب بيني وبينك- شاكر مصطفى مقالة جديدة: نبض الحياة !

هل خطر في بالك، في لحظة تأمل، أن تنصت لهذه الضجة الخرساء التي ينبض بها كيانك وتتمزق بها الدنيا الموارة* حولك؟
أن تتأمل الحياة في سيرها السرمدي؟
أنا، بيني وبينك، ما فعلت ذلك إلا تملكني رعب حبيب!
أتصور الآلة التي هي (أنا)ورهبتها لو أصرت ملايين الخلايا فيها على الضجيج، وألوف الشرايين والأعصاب التي تعمل دون انقطاع على الغناء! وأنظر حولي إلى هذه الوجوه في المقهى وفي الدرب كيف تتجلى الحياة فيها بألف لون وألف شكل. وتدرج الحقول أمامي بما عليها كالنشيد المسكر كلُّ زهرة فيها رغم نشوة العطر أشبه بعامل يعمل تحت الشمس وكل عشب وكل غصن ..
أنظر هذا كله فأعلم أن أعمق أسرار الحياة أنها ثورة على الهمود*، إنها عمل متصل، أنها دعوة لإبداع شيء!
ولهذا يدهمنا الفرح كدفقة الربيع، حين نتم عملاً من الأعمال؟! ويمتصنا الملل كالصدأ حين نتمطى على مقعد المقهى دون شيء !!
نحن جزء من هذه الطبيعة العاملة ولهذا امتدت الأيدي فينا، وفتحت الأعين وتمفصلت الأرجل.. وكان كل ذلك فينا لنعمل أي شيء !!
أهناك جهود ضائعة، كسفح الماء في الأرض؟ بلى ولكن يجب ألا ننظر بعينين مظلمتين كأنهما قطعتان من الفحم إلى الجهد الضائع، فبذل الجهد كرة بعد أخرى ليس خسارة للبذل ولكن ربحاً له أوليست الطبيعة تفعل ذلك؟ أليس تضج الشجرة بألف زهرة لتتكور في أغصانها عشرة أحقاق من العسل العطر؟ وتنثر في البحر مليون بيضة لتتكون سمكة واحدة وتجسد الرؤوس بمائة فكرة ليكتب البقاء لفكرة؟ إن روعة الحياة ليس فقط أنها عمل ولكن أنها عمل خصب!

من الحكايات أن أحد الملوك ولي العرش في ريع الصبا فجمع علماء مملكته إليه وقال:
أريد أن أقوم بما لم يقم به ملك قبلي، اجمعوا إلي أخبار ملوك العالمين لأنظر فيها.
وتقدم شيخ العلماء يقول بوركت إدارتك يا صاحب الجلالة لكن جمع أخبار الدنيا يحتاج إلى وقت طويل .. إلى عشرين سنة.. على ما يصل إليه اجتهادي المحدود.
لكم ذلك وإبدأوا منذ الساعة!
بعد عشرين سنة قطعت الطرقات إلى القصر الملكي قافلة من سبعين جملاً تحمل الكتب ومثل العلماء أمام الملك الكهل
هذه إرادتك المطاعة يا صاحب الجلالة: سبعة آلالاف مجلد تضم تاريخ الدنيا!
سبعة آلاف مجلد؟ أتحسبون أن لي من الوقت، مع كثرة الولد والمشاكل وتكالب الأعداء ما يتسع لقراءة هذا الركام المرعب.. اذهبوا واختصروا هذا كله.. وعجلوا ما استطعتم..!
وعاد عريف العلماء بعد عشر سنوات يتبعه خمسة جمال تعتل التاريخ، فقال له الملك:
يا صاحبي لقد ضعف جسمي وخدت السنون والحروب قوتي فهلا اختصرت هذه المجلدات الخمسمائة؟ هلا فعلت؟
ومضت عشر سنوات أخرى وجاء كبير العلماء:
إليك يا مولاي ما تشتهي ! فهذا فيل على بابك يتهادى بتاريخ الدنيا في ثلاثين مجلداً !
وابتسم الملك من جديد: يا صاحبي العزيز لقد كلّ بصري وذهب جلدي ومن لي بقراءة صفحاتك هل لك بخدمة أخيرة لي؟ اختصرها ما استطعت ! فإني أحرص على معرفة شيء قبل الموت….
ومضت خمس سنوات ووقف العالم الشيخ بباب القصر بجر حماراً عليه مجلداً ضخماً وما كاد الحرس يرونه حتى قالوا:
أسرع فإن صاحب الجلالة يحتضر..!!
وارتسمت ابتسامه في عيني الملك الخائرتين حين رآه قال:
قد افترس عمرك هذا المجلد؟ ولكني أنا أيضاً على فراش الموت؟ وسأموت دون أن أعرف شيئاً!
فقال العالم الشيخ:
لا يا مولاي ! باستطاعتي أن ألخص لك هذا كله أيضاً وفي ثلاث كلمات:
بلى! يولد الإنسان ويعمل ويموت !
ولم يسمع الملك الكلمة الأخيره.. لأنه كان مات!
أما كان باستطاعة كبير العلماء بيني وبينك أن يقول بكلمة واحدة: الحياة عمل خصب!!

——————————————-
•    المَوَّارُ : الكثير الحركة والاضطراب، خشينا ركوبَ البَحْر المَوّار.- من الإنسان أو الحيوان: الذي يجيء ويذهب باضطراب وسرعة؛ دَابَّةٌ مَوَّارة اليَدِ، أي سهلةُ السَّيْرِ سَرِيعَةٌ/ رياحٌ مَوََّارَةٌ، أي مثيرة للتراب.
•    كالهَمْد: في الأرضِ أن لا يكونَ بها حَياةٌ ولا عُودٌ ولا نَبْتٌ ولا مَطَرٌ.

تعليق على المقال:

يقول جون تشارلز سالاك ينقسم الفاشلون إلى نصفين: هؤلاء الذين يفكرون ولا يعملون، وهؤلاء الذين يعملون ولا يفكرون أبداً.
عندما نقول أن الحياة هي عمل خصب .. فالمقصود أن نعمل لهدف معين، نرغبه، نريده بشدّة، نحققه في النهاية بالإرادة والعمل والأمل، وكلما كان هدفنا كبيراً كلما تتطلب عملاً أكثر، الملك في القصة أراد أن يعرف عن الحياة لكن الموت سبقه إلى ذلك، عمل العالم منتج بقدر ما هو مهمل من قبل الملك كما الأمر في بلادنا، يعمل الموظف لساعات وساعات و يرُمى عمله في لحظة لأن الهدف منذ البداية لم يكن واضحاً أو أنه كان لغاية معينة في رأس الملك .. عفواً المدير.
أكثر ما شدني في هذه المقاله هو فكرة اختزال الحياة في مجلد وفي النهاية بكلمتين أضيف إليها ” الحياة عملٌ خصب لحياة ثانية”
انتظر آراءكم ..

Tags: ,

11 Responses to “نبض الحياة!”

  1. lamis Says:

    أولاً أتمنى أنّ أفوز بلقب المعلّقة الأولى على التدوينات في الفترة الأخيرة :22:بالنسبة
    للموضوع فهو مثمرومهم فرررررررح ، فعلاً عدم وضوح الهدف في حياتنا في بلدنا بالأخص سبب من أسباب فشلنا المتكرر بالتقدم
    والنقطة التي جذبتني أكثر في الموضوع نقطة الإيجاز
    والوضوح التي نحتاجها في كل شيء
    شجعتيني بيني وبينك على قراءة الكتاب
    ((f))
    وكما تقولين دوماً
    دمت خير

  2. Adham Says:

    منذ زمن لم أدخل مدونتك الرائعة يافرح ,, عن جد لما دخلت هلأ إنبهرت بما كتبت في هذه التدوينة الجميلة 🙂 .. لن أعلق أكثر من ذلك .. لأني مازلت مندمجاً في التدوينة 🙂 .. يسلموا إيديكِ .

    أدهم

  3. mn zaman Says:

    العمل عبادة …
    للعمل أسس يقوم عليها
    في تدوينة لصديقي صالح تحت إسم ” لماذا ” .. الكلمة الاستفهامية العجيبة … يوجد نصف ما نبحث عنه من الأسس
    لماذا أعمل وإلى أين سأصل وهل هذا العمل هو هدفي في الحياة ؟
    أسئلة ضرورية كثيراً ما ننسى أن نسألها لأنفسنا لنباشر بالعمل بدون أي تفكير بكلمة لماذا …

    لو سمح ذلك الملك لنفسه بالتفكير 5 ثواني فقط بكلمة لماذا لما تقدم بذلك الطلب , إن الإنسان يعمل ويفكر وما أجمل أن يتجمع الإثنين معاً ليطرحان حلأ متكاملأ لمعظم المشاكل التي نعاني منها هذه الأيام .

    الحياة عمل خصب …
    خصب يعني يعطي نتيجة
    فالأرض الخصبة تعطي الأشجار
    والعقل الخصب يعطي الأفكار
    والعمل الخصب مع الفكر الخصب يعطي نتيجة خصبة أي يعطي إبداعاً هو هدف وضالة لكل إنسان خصب على وجه المعمورة

    مدونة رائعة فرح … دمتي بخير
    على الهامش : مبروك القالب الجديد 🙂

  4. Alaa Says:

    مقالة رائعة

  5. S@NA Says:

    تقافزي للفرح أكثر .. أنت نبض هنا .. ولا يمكننا أن نتجاهل ايقاعه 🙂

    دمت 😉

  6. أنس Says:

    لسا يا فرح, الموضوع أكبر من هيك بكثير …
    تخيلي لو أنك دخلتي بتفاصيل أدق دقائق الكائن البشري واللي هيي الخلية البشرية والعمليات اللي عم تصير على مستواها ومن بعدها طلعنا للكائن البشري ككل …

    كيف هالبعد مابين الخلية والكائن ! ومثل ما قلتي أنتي!
    الموضوع بده صفنة كبيرة … وتدوينتك بدها صفنات يا عزيزتي, جميلة جداً على فكرة … عن اذنك بدي اقرأها مرة ثانية …

  7. غيث Says:

    :22: مقالة رائعة
    هذه أول مرة أرد فيها في هذه المدونة الأكثر من رائعة
    والتي يعجز لساني عن وصفها
    في الحقيقة كل شيء مميز في هذه المدونة
    أنا أسف إذا كنت قد خرجت عن موضوع التدوينة
    ولكن من شدة إنبهاري لم أستطع منع نفس عن الكلام
    بالنسبة للمقالة
    الجميل فيها الحكاية التي أوردها الكاتب
    حيث دفعناإلى قراءة المقالة حتى آخرها لمعرفة نهاية القصة

  8. FaRaH Says:

    لموس ..

    تكرم عينك اللقب لك p:

    خلص ولا يهمك بجبلك ياه .. بس على شرط تكتبي كلشي فيه على الورد p:

    مثل ما قلت الايجاز والوضوح هما ما نحتاجهما ..

    وانت الخير عزيزتي ((f))

    ______________

    أدهم ..

    أهلاً نورت من بعد هالغيبة … شكراً لتعليقك ووجودك 🙂

    ______________

    من زمان ..

    كلامك صحيح 100%
    كثير من الناس لا يعرفون أجوبة لماذا ..
    وآخرون يكون عملهم عكس الخصب تماماً ..

    شكراً لوجودك سعيدة به جداً 🙂 والله يبارك فيك 🙂 :$

    _____________________

    آلاء ..

    أهلا بك .. سعيدة بوجودك ..

    ___________________

    S@ANA

    وأنت نبض لا نعيش بدونه ((f))

    __________________

    أنس ..

    تعبجني طريقة تعمقك في كل شيء بالفعل لو غصنا أكثر لعرفنا أكثر ..
    أشكر وجودك وقراءتك وصفناتك 🙂

    __________________

    غييييث

    عنجد كتير انبسطت بوجودك وانك أخيراً فتت على المدونة ..

    أهلا وسهلا فيك .. ومتل ما بقولوا القصة هي أفضل الطرق للجذب .. فالكاتب متميز بالايجاز والأسلوب ..

    شكراً غيث بتمنى وجودك دائماً 🙂

  9. صلاح Says:

    من كتابات الدكتور شاكر(في ركاب الشيطان )
    وتمر امامي هنا في عرض كعرض اعياد المساخر ملايين المجلدات التى تروي لي ولغيري تاريخ الناس واخبار الذاهبين الاولين وقصص الحضارات العلى واحوال الابطال الذين تركوا (في الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء انمله العشر) فلا ارى في ذلك جميعه سوى صورة واحدة مكرورة صورة هذا الحيوان الذي وقف على ساقيه ولكن مانفكت عيناه تبحثان عن الطعام في الارض ويداه تعملان على تكويم التراب أكوما يدعونها مدنا وليس بعد ذلك شيء سوى بعض اللغو الذي يدعونه فكرا واخلاقا وفلسفة وعلما قد تروع هذه الصورة الجهمة بعض المؤمنين بالتقدم الانساني الذين يتصورون الانسانية صاعدة على سلم أقدامه فى الارض وفروعه بصدر النجم مع الملاء الاعلى ولكن مهلا بعض التواضع انتهى تسلم ايدك يافرح وياريت بس تحسنين طريقة عرض المواضيع شوي لانها معقدة وشكرا على هامجهود

  10. SwcnJGsh Says:

    jkYAQlxV

  11. WpcZdrVGtCqXFBI Says:

    kZczepnPAWid

Leave a Reply